قال الشافعي – رضي الله عنه: فأجبت بنص كتاب الله ومن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وإجماع المسلمين حتى أجبت على المسائل كلها، ثم دفعت إليه الدرج، فتأمله ونظر فيه ثم قال لعبده:
- خذ بيد سيدك إليك.
قال الشافعي – رضي الله عنه: ثم سألني النهوض مع العبد؛ فنهضت غير ممتنع وقد حملت بعض أداتي وحمل الغلام بعضها، فلما صرت إلى باب المسجد قال لي العبد:
- إن سيدي أمرني أن لا تصير إلى المنزل إلا راكبًا.
قال الشافعي – رضي الله عنه: فقلت له: قّدَّمْ!
فقدم إليَّ بغلة بسرج محلي، فلما علوت على ظهرها رأيت نفسي باكيًا، وطاف بي أزقة الكوفة إلى منزل محمد بن الحسن فرأيت أبوابًا واسعة ودهاليز منقوشة بالذهب والفضة، فذكرت ضيق أهل الحجاز وما هم فيه وقلتُ: أهل العراق ينقشون بيوتهم بالذهب والفضة وأهل الحجاز يأكلون القديد ويمصون النَّوى! ثم أقبل علي محمد بن الحسن وأنا في بكائي، فقال لي:
- لا يرعك أبا عبد الله ما رأيت؛ فما هو إلا من قُنيةٍ حلال وبكسب ما يطالبني الله فيه بفرض، وأنا أُخرج زكاتها في كل عام، فأسرُّ بها الصديق وأكبتُ بها العدو.
قال الشافعي – رضي الله عنه: فما بات حتى كساني محمد بن الحسن خلعة بألف درهم بغلية، قال الشيخ أبو القاسم - يعني وازنة: ودخل إلى خزانته فأخرج لي الكتاب الأوسط تأليف أبي حنيفة – رضي الله عنه، فنظرت في أوله وآخره ثم ابتدأت الكتاب في ليلتي أتحفظه، فما أصبحت إلا وقد حفظته، ومحمد بن الحسن لا يعلم بشيء من ذلك، وكان المشهور بالكوفة بالفتوى والمجيب في النوازل؛ فبينما أنا ذات يوم قاعد عن يمينه إذ سُئل عن مسألة أجاب عنها تقليدًا وقال:
هكذا قال أبو حنيفة – رضي الله عنه: «ووهم عليه في الجواب».
فقلت له: الجواب غير هذا؛ فلولا أن قلت فيه بالتقليد لأحسنت أدب المجالسة؛ ولكنك وهمت، والجواب من قول الرجل في هذه كذا وكذا، وتحتها المسألة الفلانية وفوقها المسألة الفلانية في الكتاب الفلاني.
فأمر محمد بن الحسن بالكتاب فأحضر، فتصفحه ونظر فيه فأصاب القول ما قلت، فرجع عن جوابه إلى ما قلت، ولم يخرج إليَّ كتابًا بعدها، وقال: لقد أمعنت النظر.
قلت: أتيت على حفظ الكتاب وما علمت أنه سقط عليَّ منه حرف ولا سنة ولا ألف.
قال الشافعي – رضي الله عنه: فاستأذنته في الرحيل، فقال: ما كنت لآذن لضيف يرحل عني ولا ... له مشاطرة نعمتي (1).
فقلت: ما لهذا قصدت، ولا له أردت، ولا رغبة لي إلا السفر.
قال: فأمر غلامه أن يأتي بكل ما في خزائنه من بيضاء وحمراء ومن الورق فدفع إلي ما كان فيها؛ وهو ثلاثة آلاف درهم وأقبلتُ أطوف العراق وأرض فارس وبلاد الأعاجم وألقى الرجال حتى كنت ابن إحدى وعشرين سنة، ودخلت العراق في أول خلافة الرشيد؛ فعند دخولي بغداد وتقدم رجلي للمشي انطلق في أثري غلام فلاطفني وقال: ما اسمك؟
قلت: محمد.
فقال: ابن من؟
فقلت: ابن إدريس.
قال: مَنْ تكون؟
قلتُ: شافعي.
قال لي: مطَّلبيٌّ؟ قلت: أجل.
فكتب ذلك في ألواح كانت في كمه وخلَّى سبيلي.
فدخلت إلى بعض المساجد أفكر في عاقبة ما فعل، حتى إذا ذهب من الليل النصف كُبس المسجد، فأرعب من كان فيه، وأقبلوا يتأملون وجه رجل رجل حتى أتوا إليَّ، فقلت لهم: لا بأس عليكم، هذه الحاجة والغاية المطلوبة.
ثم أقبلوا إلي وقالوا: أجب أمير المؤمنين.
قال الشافعي – رضي الله عنه: فقمت غير ممتنع، فلما أبصرت أمير المؤمنين سلَّمتُ عليه السلام السنَّة، فاستحسن الألفاظ والسياق وميَّز ذهنه بين الخطأ والصواب وردَّ عليَّ الجواب، ثم قال لي:
- تزعم أنك من بني هاشم؟
فقلت: يا أمير المؤمنين كل زعم في كتاب الله باطل.
- فقال لي: فتقول؟ قلت: نعم.
فقال لي: أبن لي عن نفسك.
قال الشافعي: فانتسبت حتى بلَّغتُ آدم عليه السلام بالطين فقال لي الرشيد:
- ما تكون هذه البلاغة إلا في رجل من دار عبد المطلب؛ هل لك أن أولِّيك قضاء المسلمين وأشاطرك ما أنا فيه وينفذ حكمك فيهم وحكمي على ما اشترط وجاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وأجمعت عليه الأمة؟
قلت: لو سألتني يا أمير المؤمنين أن أفتح باب القضاء بالغداة وأغلق بالعشي بنعمتك هذه ما فعلت ذلك أبدًا.
قال: فبكى الرشيد وقال: هل تقبل من عَرَض دنيانا شيئًا؟ فقلت: يكون معجلاً.
فأمر لي بألف دينار، فما برحتُ من مقامي حتى قبضتها. ثم سألني بعض الغلمان والحشم أن أصلهم من صلتي، فلم تسع المروءة إذ كنت مسؤولاً إلا أن قاسمتهم مما أنعم الله عليَّ به، فخرج لي قسم كأقسامهم، وعدت إلى المسجد الذي كنت فيه ليلتي، فلما أصبحت تقدم فصلى بنا غلامٌ صلاة الفجر في جماعة وأجاد القراءة، ولحقه سهو في الصلاة فلم يدر كيف الدخول ولا كيف الخروج.
فقلت له بعد السلام:
- أفسدت علينا وعلى نفسك فأعدْ.
فأعاد مسارعًا وأعدنا، ثم قلت له:
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
- خذ بيد سيدك إليك.
قال الشافعي – رضي الله عنه: ثم سألني النهوض مع العبد؛ فنهضت غير ممتنع وقد حملت بعض أداتي وحمل الغلام بعضها، فلما صرت إلى باب المسجد قال لي العبد:
- إن سيدي أمرني أن لا تصير إلى المنزل إلا راكبًا.
قال الشافعي – رضي الله عنه: فقلت له: قّدَّمْ!
فقدم إليَّ بغلة بسرج محلي، فلما علوت على ظهرها رأيت نفسي باكيًا، وطاف بي أزقة الكوفة إلى منزل محمد بن الحسن فرأيت أبوابًا واسعة ودهاليز منقوشة بالذهب والفضة، فذكرت ضيق أهل الحجاز وما هم فيه وقلتُ: أهل العراق ينقشون بيوتهم بالذهب والفضة وأهل الحجاز يأكلون القديد ويمصون النَّوى! ثم أقبل علي محمد بن الحسن وأنا في بكائي، فقال لي:
- لا يرعك أبا عبد الله ما رأيت؛ فما هو إلا من قُنيةٍ حلال وبكسب ما يطالبني الله فيه بفرض، وأنا أُخرج زكاتها في كل عام، فأسرُّ بها الصديق وأكبتُ بها العدو.
قال الشافعي – رضي الله عنه: فما بات حتى كساني محمد بن الحسن خلعة بألف درهم بغلية، قال الشيخ أبو القاسم - يعني وازنة: ودخل إلى خزانته فأخرج لي الكتاب الأوسط تأليف أبي حنيفة – رضي الله عنه، فنظرت في أوله وآخره ثم ابتدأت الكتاب في ليلتي أتحفظه، فما أصبحت إلا وقد حفظته، ومحمد بن الحسن لا يعلم بشيء من ذلك، وكان المشهور بالكوفة بالفتوى والمجيب في النوازل؛ فبينما أنا ذات يوم قاعد عن يمينه إذ سُئل عن مسألة أجاب عنها تقليدًا وقال:
هكذا قال أبو حنيفة – رضي الله عنه: «ووهم عليه في الجواب».
فقلت له: الجواب غير هذا؛ فلولا أن قلت فيه بالتقليد لأحسنت أدب المجالسة؛ ولكنك وهمت، والجواب من قول الرجل في هذه كذا وكذا، وتحتها المسألة الفلانية وفوقها المسألة الفلانية في الكتاب الفلاني.
فأمر محمد بن الحسن بالكتاب فأحضر، فتصفحه ونظر فيه فأصاب القول ما قلت، فرجع عن جوابه إلى ما قلت، ولم يخرج إليَّ كتابًا بعدها، وقال: لقد أمعنت النظر.
قلت: أتيت على حفظ الكتاب وما علمت أنه سقط عليَّ منه حرف ولا سنة ولا ألف.
قال الشافعي – رضي الله عنه: فاستأذنته في الرحيل، فقال: ما كنت لآذن لضيف يرحل عني ولا ... له مشاطرة نعمتي (1).
فقلت: ما لهذا قصدت، ولا له أردت، ولا رغبة لي إلا السفر.
قال: فأمر غلامه أن يأتي بكل ما في خزائنه من بيضاء وحمراء ومن الورق فدفع إلي ما كان فيها؛ وهو ثلاثة آلاف درهم وأقبلتُ أطوف العراق وأرض فارس وبلاد الأعاجم وألقى الرجال حتى كنت ابن إحدى وعشرين سنة، ودخلت العراق في أول خلافة الرشيد؛ فعند دخولي بغداد وتقدم رجلي للمشي انطلق في أثري غلام فلاطفني وقال: ما اسمك؟
قلت: محمد.
فقال: ابن من؟
فقلت: ابن إدريس.
قال: مَنْ تكون؟
قلتُ: شافعي.
قال لي: مطَّلبيٌّ؟ قلت: أجل.
فكتب ذلك في ألواح كانت في كمه وخلَّى سبيلي.
فدخلت إلى بعض المساجد أفكر في عاقبة ما فعل، حتى إذا ذهب من الليل النصف كُبس المسجد، فأرعب من كان فيه، وأقبلوا يتأملون وجه رجل رجل حتى أتوا إليَّ، فقلت لهم: لا بأس عليكم، هذه الحاجة والغاية المطلوبة.
ثم أقبلوا إلي وقالوا: أجب أمير المؤمنين.
قال الشافعي – رضي الله عنه: فقمت غير ممتنع، فلما أبصرت أمير المؤمنين سلَّمتُ عليه السلام السنَّة، فاستحسن الألفاظ والسياق وميَّز ذهنه بين الخطأ والصواب وردَّ عليَّ الجواب، ثم قال لي:
- تزعم أنك من بني هاشم؟
فقلت: يا أمير المؤمنين كل زعم في كتاب الله باطل.
- فقال لي: فتقول؟ قلت: نعم.
فقال لي: أبن لي عن نفسك.
قال الشافعي: فانتسبت حتى بلَّغتُ آدم عليه السلام بالطين فقال لي الرشيد:
- ما تكون هذه البلاغة إلا في رجل من دار عبد المطلب؛ هل لك أن أولِّيك قضاء المسلمين وأشاطرك ما أنا فيه وينفذ حكمك فيهم وحكمي على ما اشترط وجاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وأجمعت عليه الأمة؟
قلت: لو سألتني يا أمير المؤمنين أن أفتح باب القضاء بالغداة وأغلق بالعشي بنعمتك هذه ما فعلت ذلك أبدًا.
قال: فبكى الرشيد وقال: هل تقبل من عَرَض دنيانا شيئًا؟ فقلت: يكون معجلاً.
فأمر لي بألف دينار، فما برحتُ من مقامي حتى قبضتها. ثم سألني بعض الغلمان والحشم أن أصلهم من صلتي، فلم تسع المروءة إذ كنت مسؤولاً إلا أن قاسمتهم مما أنعم الله عليَّ به، فخرج لي قسم كأقسامهم، وعدت إلى المسجد الذي كنت فيه ليلتي، فلما أصبحت تقدم فصلى بنا غلامٌ صلاة الفجر في جماعة وأجاد القراءة، ولحقه سهو في الصلاة فلم يدر كيف الدخول ولا كيف الخروج.
فقلت له بعد السلام:
- أفسدت علينا وعلى نفسك فأعدْ.
فأعاد مسارعًا وأعدنا، ثم قلت له:
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]