(قصة أبي بصير)
قال أهل السير أقام النبىّ صلى الله عليه وسلم بالحديبية قريبا من عشرين يوما ثم رجع الى المدينة، روى أنه صلى الله عليه وسلم لما رجع من الحديبية وكان بضجنان – كسكران - جبل بقرب مكة نزلت عليه ليلًا سورة (إنا فتحنا لك فتحا مبينا) والمراد من الفتح المبين عند بعض المفسرين فتح الحديبية، وسمى فتحا، لأنه كان مقدمة لفتوح كثيرة، كما ورد فى كتب التفاسير والسير من أن الذين أسلموا فى سنتى الصلح يعدلون الذين أسلموا قبلهما.
وبعض المفسرين على أن المراد بالفتح المبين، فتح مكة، أو فتح خيبر الذى وعده الله لرسوله صلى الله عليه وسلم، وانما أُدّى بصيغة الماضى لأن أخبار الله فى التحقق بمنزلة الكائن الموجود، والله أعلم.
روى أن النبىّ صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة من الحديبية جاءه أبو بصير- عتبة بن أسد بن حارثة - رجل من قريش وهو مسلم، وكان ممن حبس بمكة، فكتب أزهر بن عبد بن عوف، والأخنس بن شريق الثقفى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابا، وبعثا فى طلبه رجلا من بنى عامر بن لؤى، ومعه مولى لهم، فقدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة بالكتاب وقالا: العهد الذى جعلت لنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا بصير إنا أعطينا هؤلاء القوم ما قد علمتَ، ولا يصح فى ديننا الغدر وإن الله جاعلٌ لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا، ثم دفعه الى الرجلين فخرجا به وانطلق معهما حتى بلغا ذا الحليفة فنزلوا هناك فدخل أبو بصير المسجد وركع ركعتين، ثم جلسوا يتغدّون، ويأكلون من تمر لهم فقال أبو بصير لأحد الرجلين: والله إنى لأرى سيفك هذا يا أخا بنى عامر صارمًا جيدا فاستله الآخر فقال: أجل إنه والله لجيد لقد جربت به، ثم جربت، فقال أبو بصير: أرنى أنظر اليه، فأمكنه منه فضربه به حتى برد – أي مات - وفى رواية استله أبو بصير فضربه به حتى برد، وذكر ابن عقبة أن الرجل هو الذى سل سيفه ثم هزه وقال لأ ضربن بسيفى هذا فى الأوس والخزرج يوما إلى الليل، فقال له أبو بصير: فصارمٌ سيفك هذا؟ فقال نعم فقال ناولنيه لأنظر إليه فناوله إياه، فلما قبض عليه ضربه به حتى برد، ويقال: بل تناول أبو بصير سيف الرجل بفيه فقطع أساره ثم ضربه به حتى برد، وطلب الآخر فخرج مرعوبا حتى دخل المسجد.
وفى رواية وفرّ الآخر حتى أتى المدينة فدخل المسجد يعد وحتى لتطن الحصباء من شدّة سعيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد لقى هذا ذعرا، فلما انتهى الى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: ويلك؟ مالك؟ قال: قتل صاحبكم صاحبى وإنى لمقتول.
وفى الاكتفاء، قال: ويحك مالك؟ قال: قد قتل صاحبكم صاحبى، قال فو الله ما برح حتى طلع أبو بصير متوشحا السيف حتى وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبى الله قد والله أوفى الله ذمتك قد رددتنى إليهم ثم أنجانى الله منهم، فقال النبىّ صلى الله عليه وسلم: ويل أمه مسعر حرب لو كان معه أحد.
وفى الاكتفاء محش حرب لو كان معه رجال، وفى هذا الكلام إيماء لأبى بصير إلى الفرار ورمزٌ للمؤمنين الذين كانوا بمكة أن يلحقوا به.
فلما سمع ذلك أبو بصير عرف أنه سيردّه الى قريش فخرج حتى نزل سيف البحر - موضعا يقال له العيص - من ناحية المروة على ساحل البحر بطريق قريش الذى كانوا يأخذونه الى الشام وبلغ المسلمين الذين كانوا احتبسوا بمكة قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ويل أمه محش حرب لو كان معه رجال، فخرجوا الى أبى بصير بالعيص، فاجتمع إليه قريب من سبعين رجلا منهم.
وذكر موسى بن عقبة أن أبا جندل بن سهيل بن عمرو الذى ردّ إلى قريش بالحديبية مكرها يوم الصلح والقضية هو الذى انفلت فى سبعين راكبا أسلموا وهاجروا فلحقوا بأبى بصير، ونزلوا مع أبى بصير فى منزل كريه إلى قريش فقطعوا مادتهم من طريق الشام وكان أبو بصير على ما زعموا وهو فى مكانه ذلك يصلى بأصحابه فلما قدم عليهم أبو جندل كان هو يؤمّهم واجتمع إلى أبى جندل أناس من غفار وأسلم وجهينة وطوائف من العرب حتى بلغوا ثلثمائة مقاتل وهم مسلمون، فأقاموا مع أبى جندل وأبى بصير لا تمرّ بهم عير لقريش إلا أخذوها وقتلوا أصحابها وقال فى ذلك أبو جندل فيما ذكره غير ابن عقبة شعرا
أبلغ قريشا عن أبى جندل ... أنا بذى المروة بالساحل
فى معشر تخفق أيمانهم ... بالبيض فيها والقنا الذابل
يأبون أن تبقى لهم رفقة ... من بعد إسلامهم الواصل
أو يجعل الله لهم مخرجا ... والحق لا يغلب بالباطل
فيسلم المرء بإسلامه ... أو يقتل المرء ولا يأتل
فأرسل قريش أبا سفيان بن حرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه ويتضرّعون إليه ويناشدونه بالله والرحم أن يرسل الى أبى بصير وأبى جندل بن سهيل ومن معهم فيقدموا عليه وقالوا: إنا أسقطنا هذا الواحد من الشروط فمن أتاه فهو آمن.
وفى الاكتفاء قالوا: من خرج منا إليك فأمسكه فى غير حرج فإنّ هؤلاء الركب قد فتحوا علينا بابًا لا يصلح إقراره فلما كان ذلك من أمرهم علم الذين كانوا أشاروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يمنع أبا جندل من أبيه يوم الصلح، والقضية أنّ طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم خير فيما أحبوا وفيما كرهوا وأنّ رأيه أفضل من رأيهم.
وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم الى أبى جندل وأبى بصير يأمرهم أن يقدموا عليه بالمدينة ويأمر من معهما من المسلمين أن يرجعوا الى بلادهم وأهليهم ولا يتعرّضوا لأحد مرّ بهم من قريش وعيرانها، فقدم كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبى جندل وأبى بصير، وكان أبو بصير حينئذ مشرفا على الموت فمات وكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فى يده يقتريه فدفنه أبو جندل مكانه وجعل عند قبره مسجدا، وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أناس من أصحابه ورجع سائرهم الى أهليهم وأمنت عيران قريش ولم يزل أبو جندل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهد ما أدرك من المشاهد بعد ذاك وشهد الفتح ورجع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يزل معه بالمدينة حتى توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقدم أبوه سهيل بن عمرو المدينة أوّل إمارة عمر بن الخطاب رضى الله عنه فمكث بها شهرا ثم خرج إلى الشام يجاهد وخرج معه ولده أبو جندل، فلم يزالا مجاهدين حتى ماتا جميعا هناك، رضي الله عنهما، وظاهر بعض روايات البخارى يدل على أنّ قوله تعالى: (وهو الذى كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة... الآية) نزلت فى قصة أبى بصير والله أعلم.
منقول من كتاب "تاريخ الخميس فيأحوال أنفس النفيس لحسين بن محمد بن الحسن الديار بكري ت 966ه (2/25)"
قال أهل السير أقام النبىّ صلى الله عليه وسلم بالحديبية قريبا من عشرين يوما ثم رجع الى المدينة، روى أنه صلى الله عليه وسلم لما رجع من الحديبية وكان بضجنان – كسكران - جبل بقرب مكة نزلت عليه ليلًا سورة (إنا فتحنا لك فتحا مبينا) والمراد من الفتح المبين عند بعض المفسرين فتح الحديبية، وسمى فتحا، لأنه كان مقدمة لفتوح كثيرة، كما ورد فى كتب التفاسير والسير من أن الذين أسلموا فى سنتى الصلح يعدلون الذين أسلموا قبلهما.
وبعض المفسرين على أن المراد بالفتح المبين، فتح مكة، أو فتح خيبر الذى وعده الله لرسوله صلى الله عليه وسلم، وانما أُدّى بصيغة الماضى لأن أخبار الله فى التحقق بمنزلة الكائن الموجود، والله أعلم.
روى أن النبىّ صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة من الحديبية جاءه أبو بصير- عتبة بن أسد بن حارثة - رجل من قريش وهو مسلم، وكان ممن حبس بمكة، فكتب أزهر بن عبد بن عوف، والأخنس بن شريق الثقفى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابا، وبعثا فى طلبه رجلا من بنى عامر بن لؤى، ومعه مولى لهم، فقدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة بالكتاب وقالا: العهد الذى جعلت لنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا بصير إنا أعطينا هؤلاء القوم ما قد علمتَ، ولا يصح فى ديننا الغدر وإن الله جاعلٌ لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا، ثم دفعه الى الرجلين فخرجا به وانطلق معهما حتى بلغا ذا الحليفة فنزلوا هناك فدخل أبو بصير المسجد وركع ركعتين، ثم جلسوا يتغدّون، ويأكلون من تمر لهم فقال أبو بصير لأحد الرجلين: والله إنى لأرى سيفك هذا يا أخا بنى عامر صارمًا جيدا فاستله الآخر فقال: أجل إنه والله لجيد لقد جربت به، ثم جربت، فقال أبو بصير: أرنى أنظر اليه، فأمكنه منه فضربه به حتى برد – أي مات - وفى رواية استله أبو بصير فضربه به حتى برد، وذكر ابن عقبة أن الرجل هو الذى سل سيفه ثم هزه وقال لأ ضربن بسيفى هذا فى الأوس والخزرج يوما إلى الليل، فقال له أبو بصير: فصارمٌ سيفك هذا؟ فقال نعم فقال ناولنيه لأنظر إليه فناوله إياه، فلما قبض عليه ضربه به حتى برد، ويقال: بل تناول أبو بصير سيف الرجل بفيه فقطع أساره ثم ضربه به حتى برد، وطلب الآخر فخرج مرعوبا حتى دخل المسجد.
وفى رواية وفرّ الآخر حتى أتى المدينة فدخل المسجد يعد وحتى لتطن الحصباء من شدّة سعيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد لقى هذا ذعرا، فلما انتهى الى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: ويلك؟ مالك؟ قال: قتل صاحبكم صاحبى وإنى لمقتول.
وفى الاكتفاء، قال: ويحك مالك؟ قال: قد قتل صاحبكم صاحبى، قال فو الله ما برح حتى طلع أبو بصير متوشحا السيف حتى وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبى الله قد والله أوفى الله ذمتك قد رددتنى إليهم ثم أنجانى الله منهم، فقال النبىّ صلى الله عليه وسلم: ويل أمه مسعر حرب لو كان معه أحد.
وفى الاكتفاء محش حرب لو كان معه رجال، وفى هذا الكلام إيماء لأبى بصير إلى الفرار ورمزٌ للمؤمنين الذين كانوا بمكة أن يلحقوا به.
فلما سمع ذلك أبو بصير عرف أنه سيردّه الى قريش فخرج حتى نزل سيف البحر - موضعا يقال له العيص - من ناحية المروة على ساحل البحر بطريق قريش الذى كانوا يأخذونه الى الشام وبلغ المسلمين الذين كانوا احتبسوا بمكة قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ويل أمه محش حرب لو كان معه رجال، فخرجوا الى أبى بصير بالعيص، فاجتمع إليه قريب من سبعين رجلا منهم.
وذكر موسى بن عقبة أن أبا جندل بن سهيل بن عمرو الذى ردّ إلى قريش بالحديبية مكرها يوم الصلح والقضية هو الذى انفلت فى سبعين راكبا أسلموا وهاجروا فلحقوا بأبى بصير، ونزلوا مع أبى بصير فى منزل كريه إلى قريش فقطعوا مادتهم من طريق الشام وكان أبو بصير على ما زعموا وهو فى مكانه ذلك يصلى بأصحابه فلما قدم عليهم أبو جندل كان هو يؤمّهم واجتمع إلى أبى جندل أناس من غفار وأسلم وجهينة وطوائف من العرب حتى بلغوا ثلثمائة مقاتل وهم مسلمون، فأقاموا مع أبى جندل وأبى بصير لا تمرّ بهم عير لقريش إلا أخذوها وقتلوا أصحابها وقال فى ذلك أبو جندل فيما ذكره غير ابن عقبة شعرا
أبلغ قريشا عن أبى جندل ... أنا بذى المروة بالساحل
فى معشر تخفق أيمانهم ... بالبيض فيها والقنا الذابل
يأبون أن تبقى لهم رفقة ... من بعد إسلامهم الواصل
أو يجعل الله لهم مخرجا ... والحق لا يغلب بالباطل
فيسلم المرء بإسلامه ... أو يقتل المرء ولا يأتل
فأرسل قريش أبا سفيان بن حرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه ويتضرّعون إليه ويناشدونه بالله والرحم أن يرسل الى أبى بصير وأبى جندل بن سهيل ومن معهم فيقدموا عليه وقالوا: إنا أسقطنا هذا الواحد من الشروط فمن أتاه فهو آمن.
وفى الاكتفاء قالوا: من خرج منا إليك فأمسكه فى غير حرج فإنّ هؤلاء الركب قد فتحوا علينا بابًا لا يصلح إقراره فلما كان ذلك من أمرهم علم الذين كانوا أشاروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يمنع أبا جندل من أبيه يوم الصلح، والقضية أنّ طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم خير فيما أحبوا وفيما كرهوا وأنّ رأيه أفضل من رأيهم.
وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم الى أبى جندل وأبى بصير يأمرهم أن يقدموا عليه بالمدينة ويأمر من معهما من المسلمين أن يرجعوا الى بلادهم وأهليهم ولا يتعرّضوا لأحد مرّ بهم من قريش وعيرانها، فقدم كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبى جندل وأبى بصير، وكان أبو بصير حينئذ مشرفا على الموت فمات وكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فى يده يقتريه فدفنه أبو جندل مكانه وجعل عند قبره مسجدا، وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أناس من أصحابه ورجع سائرهم الى أهليهم وأمنت عيران قريش ولم يزل أبو جندل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهد ما أدرك من المشاهد بعد ذاك وشهد الفتح ورجع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يزل معه بالمدينة حتى توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقدم أبوه سهيل بن عمرو المدينة أوّل إمارة عمر بن الخطاب رضى الله عنه فمكث بها شهرا ثم خرج إلى الشام يجاهد وخرج معه ولده أبو جندل، فلم يزالا مجاهدين حتى ماتا جميعا هناك، رضي الله عنهما، وظاهر بعض روايات البخارى يدل على أنّ قوله تعالى: (وهو الذى كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة... الآية) نزلت فى قصة أبى بصير والله أعلم.
منقول من كتاب "تاريخ الخميس فيأحوال أنفس النفيس لحسين بن محمد بن الحسن الديار بكري ت 966ه (2/25)"
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]